المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: عودة ترامب إلى السلطة تعدّ إشارة واضحة إلى أن الديمقراطية لم تعد محصنة في الولايات المتحدة كما كانت سابقًا، ولم يعد لها حراس يحمونها من الانحرافات. هذا الوضع يذكرنا بالوضع الراهن في السويد. يمكن اعتبار هذه العودة نقطة تحول حاسمة في السياسة الأمريكية، التي أصبحت أكثر انقسامًا من أي وقت مضى.
هذا الانقسام يعزز حالة من عدم اليقين تؤثر على الساحة العالمية، مما يفاقم مخاطر الاستقطاب ويعمق مشاعر القلق والتوجس وانعدام الثقة. علاوة على ذلك، يؤدي هذا الواقع إلى خلق عالم موازٍ يؤثر سلبًا على الديمقراطية والحكومات، ويتجسد في سيطرة الأثرياء أصحاب الشركات الاقتصادية العملاقة والبنوك الكبرى على مفاصل السلطة. ومع هذا التحول، يمكننا أن نتوقع بروز تكتلات إقليمية جديدة وتحالفات مختلفة، في ظل نظام دولي يمر بعملية تفكك وأصبح اليوم أضعف من أي وقت مضى.
قد تكون الحرب العالمية الثالثة على الأبواب، أو ربما بدأت بالفعل، مع تصاعد التوترات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، وصولاً إلى تايوان. يلوح في الأفق احتمال مواجهة اقتصادية وعسكرية بين الصين والولايات المتحدة وحلفائهما، حيث يسعى دونالد ترامب إلى توسيع نفوذ بلاده من خلال الاستحواذ على كندا، وبنما، وجرينلاند، كرسائل واضحة إلى الصين في إطار التصعيد والصراع الجيوسياسي والاقتصادي على النفوذ والسيطرة. هذا التصعيد يزيد من احتمالية اندلاع صراع جديد كامتداد للحروب المستمرة التي تعصف بالعالم.
لذلك، نحن إذن أمام فترة حافلة بالتحديات والمخاطر، ولكنها في الوقت ذاته تحمل فرصًا للتغيير وإعادة تشكيل تموضع القوى الإقليمية والدولية. ومع ذلك، من المتوقع أن يكون لهذا التحول ثمن باهظ على الجميع.
و يمكن القول إطلاقا من هذا التحليل الجزئي والكلي البسيط الذي يعكس الحاجة الماسة للسويد لتبني استراتيجية متوازنة وعميقة تحترم قيمها الإنسانية بينما تضمن الحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة. يجب على السويد أن تستند في هذه الاستراتيجية إلى الحكمة، والتفاعل الدبلوماسي المدروس، والتكيف مع التغيرات المتسارعة في البيئة الاقتصادية والسياسية العالمية، خاصة في ظل الأزمات الأمنية والتوترات في إطار الناتو وأمن أوروبا. العلاقات المتينة مع الشركاء الدوليين، مع الحفاظ على استقلالية القرار السياسي السويدي، ستكون ضرورية لتحقيق الأهداف الوطنية والدولية على حد سواء.
على الرغم من أن شخصية ترامب الفوضوية وغير المتوقعة تمثل تحديًا كبيرًا، إلا أنها واقع لا مفر من التعامل معه. قد يكون قد تعلم من تجاربه السابقة، أو قد يفاجئنا بسلوكيات غير متوقعة. خاصة وأن الأعراف السياسية تميل إلى أن يعكس كل رئيس جديد اتجاه السياسة الذي انتهجه سلفه، خصوصًا إذا كانا من حزبين مختلفين. لتجنب خيبات الأمل أو الانتكاسات الناجمة عن سياسات ترامب، من الضروري عدم منحه أهمية أكبر مما يستحق، وكأنه محور الكون الذي دفع بعض الساسة إلى الندب على حظوظهم العاثرة.
بالفعل، قد يمثل ترامب قوة سلبية للحركات التقدمية والديمقراطية، لكنه يشكل في الوقت ذاته تحدياً يحفز على التجديد والتطوير وتعزيز المواقف من خلال معالجة نقاط الضعف وسد الثغرات المحتملة. كما يُعد هذا التحدي فرصة لإجراء عملية ترميم وإصلاحات شاملة للأحزاب التقليدية ذات الطابع الأيديولوجي، التي تخلت عن مبادئها مقابل الوصول إلى السلطة. هذه الأحزاب أظهرت ضعفاً كبيراً في استجابتها للتغيرات ولم تطور أيديولوجياتها بما يلبي تطلعات الشعوب على الصعيدين الوطني والدولي، مما منح اليمين المتطرف أفضلية ومساحة أوسع للنمو والتأثير.
لذلك، ينبغي على السويد أن تبدأ فوراً في صياغة استراتيجيات بديلة بالتعاون مع دول الشمال والاتحاد الأوروبي. يجب أن تركز هذه الاستراتيجيات أولاً على تعزيز القدرات الأمنية والعسكرية للسويد، يليها تأمين الدول الإسكندنافية، ثم تعزيز أمن الاتحاد الأوروبي بشكل شامل. الهدف الأساسي هو بناء نظام أمني ودفاعي أوروبي مستقل قادر على حماية القارة الأوروبية بفعالية. إن بناء هوية دفاعية أوروبية مستقلة ليس بالمهمة السهلة، فهو يتطلب تحليلاً عميقاً، ووضع استراتيجية محكمة، والتزاماً قوياً من جميع الأطراف المعنية. كما يستلزم اختياراً دقيقاً للدول التي ستندرج ضمن هذا الإطار، سواء تحت مظلة الاتحاد الأوروبي أو في سياق تحالف أوروبي جديد يعمل بموازاة حلف الناتو.
من المفيد جداً تبني التفكير خارج الصندوق وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع قوى بديلة مثل الهند، ودول جنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط. هذا التنويع يمكن أن يشكل استراتيجية بديلة لمواجهة العواقب المحتملة لسياسات ترامب، ويعمل كوسيلة لتحقيق توازن استراتيجي يمكّن من المناورة السياسية المرنة. يتطلب ذلك القدرة على العزف على جميع الأوتار واختيار الأنسب وفقاً للظروف، بدلاً من الاعتماد على سياسة الاتجاه الواحد التي تخضع لنفوذ قوة واحدة مهيمنة. هذا النهج يتيح بناء شبكة علاقات متوازنة وأكثر استدامة تخدم المصالح الوطنية وتساهم في تعزيز موقع السويد على الساحة الدولية.
إن تنويع التحالفات الاستراتيجية والشراكات الأمنية والاقتصادية، سواء للسويد أو لأوروبا ككل، يمثل خطوة أساسية لتعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي، إلى جانب تعزيز الاستقلالية والسيادة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية بعيداً عن الضغوط والابتزازات الخارجية. هذا النهج يقلل الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، خاصة في ظل السياسات غير المتوقعة التي قد تظهر خلال عهود مثل عهد ترامب. من خلال تبني هذه الاستراتيجيات، يمكن تجنب العديد من الأزمات المحتملة، وكذلك السياسات الفاشلة والأجندات غير المستقرة التي قد تتغير مع كل تغيير للرئيس.
لكن قبل الشروع في هذا المشروع الاستراتيجي، من الضروري عدم فقدان البوصلة والتركيز على إصلاح السياسة الداخلية التي باتت تهدد الديمقراطية وتاريخ السويد وسمعتها. ينبغي على الأحزاب التقدمية أن تبادر بإجراء إصلاحات جذرية تضع في صلب أولوياتها مواجهة الشعبوية واليمين المتطرف، بدءًا من السويد وصولاً إلى أوروبا ككل، بالتعاون مع الأنظمة والأحزاب التقدمية الأخرى.. إن موجات اليمين المتطرف تمثل اليوم أكبر تهديد لاستقرار النظام السياسي، سواء داخل السويد أو في القارة الأوروبية عامة، مما يستوجب استجابة موحدة وحاسمة للحفاظ على قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
أحمد مولاي – كاتب وسياسي